ارشيف الذاكرة .. قصتي مع القات .. البداية .. قات ونوم
يمنات
أحمد سيف حاشد
لم أدخل عالم القات إلا في فترة متأخرة نسبيا من حياتي .. التجربة الأولى كانت بدافع مقاومة النعاس، و مغالبة الإرهاق، و استحضار التركيز، و لكنني لم أتعايش معه إلا بعد فترة طويلة من الصراع بين الرغبة و الرفض، و في الأخير أنتصر القات إلى حد أوصلني إلى توسد الحذاء عند النوم، حالما أنقطع أو أحاول الانقطاع عنه..
و بين البداية و ما صار إليه الحال كثير من التفاصيل و القصص التي سآتي على ذكرها، غير أن الأهم، و ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن زراعة و اعتلاف القات في اليمن باتا ظاهرة بحجم كارثة اجتماعية ليس فقط بحق أسرنا و مجتمعنا، و لكن بحق حاضر و مستقبل شعبنا..
المرة الأولى التي تعاطيتُ فيها القات كانت في إحدى سنوات دراستي الجامعية .. كنت أعاني سهر امتحاني مرهق من اليوم الذي قبله .. شعرت أنني لا أقوى على نهار مرهق و سهر ليلة أخرى .. أثقلني سهر على سهر و إرهاق على إرهاق .. إنها المرة الأولى التي حاولت أستعين بالقات في مواجهة النوم و الشرود المتكرر أثناء مذاكرتي في امتحان نهاية العام..
زملائي الذين أعتدت المذاكرة معهم أو مع أحد منهم، تمردوا عليّ، ربما لأنانيتي المفرطة في طريقة المذاكرة، التي استبدُ بها عليهم، و أستحوذ فيها على مجريات القراءة و النقاش .. تركوني في فترة الامتحان، و تخلوا عن الاجتماع و المُذاكرة معي في فترة مهمة و فارقة مع جميعنا، ربما لأنهم لا يقوون فيها على تحمل تبعات مجاملتي في فترة كتلك، و موسم أوشك موعده على الحصاد .. لا وقت لإهدار قليلا من الوقت أو التراخي حياله .. و تبدو هنا وجاهة المثل: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”.
طبعي كان قد ولع في القراءة المسموعة، و ربما الصاخبة في بعض الأحيان .. استيعابي من خلال القراءة الصامتة كان ضئيلا و محدودا .. و عندما يتمرد زملائي أو يملّوا المراجعة أو المذاكرة معي، أشعر أن المذاكرة الصموتة بالنسبة لي غربة مكتملة الأركان تستغرقني، و استيعابي لم يعد يعينني على التفوق..
خالتي الطيبة “سعيدة”، العجوزة الستينية على الأرجح، و التي كنت أتكي عليها، و ألوذ إليها لتستمع لي و أنا أقرأ بصوت مسموع، قد صارت تملّني هي الأخرى، و تكسر لدي همة القراءة قبل أن أشرع فيها بعد سنوات من مجاملتي و الاستماع لي في أحايين غير قليلة .. لكل كيل مقدار، و يبدو أن ما كان لدي من حيل وأساليب لجعلها تستمع أكثر قد نفذت، و طفح الكيل..
كنت ما ان أبدأ في القراءة تدخل خالتي في النعاس، بل و تجلب لي معها كثيرا منه، و إذا تماسكت لدقائق في مواجهة نعاسها، فإن تماسكها لا يطول مع النعاس، فتصبني الخيبة و يتملكني النعاس مثلها .. لا وقت لتضييعه في مرحلة الامتحانات .. أحاول أكرهها بلطف على الاستماع .. و لكن حتى مفعول الشاهي و الجوز الذي كانت تفضّله لم يعد كافيا لحشد يقظتها، و مقاومتها لنعاسها الغزير، و مللها الذي تراكم .. أنا الآن على يوم الخميس، فيما السبت على موعد مع الامتحان .. و قد قالوا: “يوم الامتحان يكرّم المرء أو يهان” و قال الشاعر: “بقدر الكد تُكتسب المعالي *** و من طلب العلا سهر الليالي”
حاولت أعتمد على نفسي هذه المرة لأقرأ وحدي و بمفردي.. كنتُ كلما حاولت أن أقرأ يمر النعاس على عيوني لذيذا و ناعما، مترعا بالمتعة، و معبرا عن مدى شغفي و حاجتي له، ثم تمطرني اللحظة بالنوم الغزير و العميق جدا..
أحاول التركيز فأشرد إلى مكان بعيد، و لا أعود منه إلا نائم بعمق، أو مجفلا بحمل من النوم الثقيل .. أصحوا من عمق النوم، و أفزع وجودي بتذكير نفسي بامتحان يوم السبت، و لكن لا تستمر يقظتي لبعض دقائق، حتى يداهمني النعاس و النوم العميق كرّة أخرى..
انتفضت من عمق نومي متمردا على حاجتي له، هرعت بانفعال و عجل ـ كمن يحمل ثارا على نعاسه ـ و لكن إلى أين..؟! إلى سوق القات في المعلا .. و كان يوم الخميس و الجمعة تعاطي القات فيهما مسموحا على غير بقية الأيام..
اشتريت قاتي من أول بائع في السوق دون مُراجله، و دون أن تكون لدي أي معرفة أو أبجديات خبرة بالقات و أنواعه أو حتى اسمائه، فضلا عن جهلي بكل تفاصيله غير مقاومته للنعاس و العون على السهر .. أردت التعويض به عن فراغ الزملاء و الاستعانة به على اليقظة، و شد الحيل و مقاومة الارهاق، و القدرة على الصمود في مواجهة جحافل النوم و جيوشه..
عدت إلى البيت .. اتكأت على مسند، لا أذكر هل كان مضغوطا أو محشوا بنشارة الخشب..!! على الأرجح كان محشوا بنشارة الخشب .. طلبت من خالتي تجهيز الشاي بالجوز و الزر و النعناع .. بدأت بالتخزين، و احتسي معه الشاي المترع بكل منعش .. شعرت لبرهة بالسلطنة و الفخامة، فتحت موضوع الدرس لأقرأ و أستذكر..
وجدت نفسي أكثر شرودا و شتاتا في التفكير من قبل .. لاحقني شرودي بزحام الوسوسة .. لعنت الوسوسة و نعتّها بـ”بنت الكلب” .. صرت أقرأ دون أن أفقه شيئا، و كنت في كل دقيقة أحاول أن استجمع قواي العقلية، أو أستعيد بعض عقلي الشارد من مكان بعيد، أو ألملم ذهني المشتت من بُعد قصي، فأفشل فشلا ذريعا، و تصيبني الخيبة و الفشل، و يتسرب إلى نفسي بعض الاكتئاب و الأسف على إهدار الوقت دون فائدة .. لم يعد سيف الوقت هو من يقطعني، بل غدا السيف منشار يعذبني..
ظننت أن القراءة تحتاج مني في مقيلي هذا وقت أطول من الانتظار ليكون التركيز و الاستيعاب على نحو أفضل .. تعاطيتُ المزيد من القات؛ و غالبتُ مرارته المقذعة، من خلال احتسائي مزيدا من الشاي، و لكن الشاي كان يعاجل القات لاصطحابه إلى معدتي..
حاولت أن أحشي بجمتي بمزيد من القات و أوراقه العريضة التي يفترض أن أرميها باعتبارها توالف .. و كلما حشيت فمي بالقات و مضغته، لا يستقر في بجمتي، بل يذهب سريعا إلى بلعومي و معدتي .. شعرت أنني صرت أشبه بحيوان يعتلف .. و بعد أن خسفت بثلثي القات إلى بطني، شعرت أنني لم أفشل في القراءة فقط، بل فشلت أيضا في تكوير بجمتي..
أمضيت ساعتين في القراءة دون أن أفقه شيئا مما قرأت .. امكث في الصفحة الواحدة وقتا أطول يصل أضعاف الوقت المعتاد .. أعيد قراءة الصفحة مرتين، و ما أن أحاول أن أستمع لنفسي؛ أكتشف أنني مشوش الذهن و مضطرب الشعور و الفكرة .. اكتشفت خيبتي، و أنه لم يعلق في ذهني شيئا مما قرأت..
و قبل نهاية اعتلاف ما بقي من قات، بديت أشعر أنني شبعت، و أن معدتي صارت ممتلئة و متخمة به، و أنني فشلت في تكوير بجمتي كما يجب، و فشلت في استيعاب أي شيء مما قرأت..
غير أن الأكثر سوءَ أن النوم داهمني بغته، فانزحت قليلا و ارتخيت، و مدد أبو حنيفة ساقيه و رجليه، و غمضت عيناي قليلا و قد أثقل النعاس جفوني و اسبلها، و غرقت في غفوة عميقة امتدت على نحو لم أكن اتوقعه، فيما لا زال بعض القات الممضوغ في فمي..
صحيت صباح يوم الجمعة بعد نوم عميق، لأرمي بقايا قات الخميس الذي نام معي في فمي حتى صباح الجمعة.
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.